يجلِس على طرف السرير، خالياً من كلّ شيءٍ إلّاه. يحكّ خدّه الأيمن مرّتَين، ينظر إلى السّاعة. عاد إلى نومه إلّا أن نومه لم يعُد، مازال متعلّقاً ببقايا ليلةِ أمس. كيف كان الحلم بذلك الوضوح، و كيف في يومٍ و بعض ليلة اختفى. تخنقه دقّات الساعة في معصمه الأيمن. يفكّ السّاعة، يزيل البطاريّة.
ليتنا نستطيع إيقاف الزّمن بتلك السهولة.
مازالت الساعة التّاسعة من صباح الأمس تلاحقه، وستبقى تلاحقه. إلّا أنّ الساعة المتوقّفة الآن في معصمه الأيسر جعلت شيئاً ما في نفسه يشعر بالاطمئنان، وكأنّه تحكّم بالزّمن، حاصَرَهُ بدلاً من أن يُحاصَر به. و كأنّه عاد إلى ما قبل كلماتها "الساعة تُلبس في اليد اليُمنى". يقف، ثم يمشي نحو مرآة الحمّام، و يبحث طويلاً عن ماكينة الحلاقة. "أين وضعَتها؟" .. سأل نفسه. كان قد سلّمها نفسه. و حين نظرت بأكثر من عينين نحوه قائلةً "لا تحلق لحيتك"، كان على قلبه أن يتبع ذلك الطلب، و أكثر، حتّى و إن كان لا يعجبه وجهه ذاك. لم يجد الماكينة. يفتح باب المنزل مسرعاً. يقابله الجار بوجهِ مواسٍ، يحاول بدء حديثٍ ما، عن الجوّ، الأخبار، درج العمارة أيّ شيءٍ إلّاها. يركض ذلك الآخر كما الخيال.
لماذا يتكلّمون لو كانت حروفهم لن تهزّ سوى ذرّات الهواء من حولها؟ لماذا عليهم أن يملؤوا الصمت بأيّ شيء حتّى و إن كان أشدّ رتابةً وبلادةً من الصمتِ ذاته؟..
يتناول أقرب شفرة حلاقة، يضع بضع وريقات في يد البائع. ينظر فوق رأس البائع الأصلع، الساعة تدقّ. يغمض عينيه. "إذا لم أرى العقارب تتراقص، فالزمن لا يُغنّي. و حينها فقط سأتمكّن من تكبيله و الحديث معه." يمضي.
سيلاحق الساعات طويلاً، سيحاول حشر الزمن في زاويةِ الاعتراف. سيسائله طويلاً جداً قبل أن يعي أنّ الزّمن أبكم. أو أنّنا عنه صُمّ.
يعود إلى بيته، يغلق الباب. لم يقابل الجار هذه المرّة، و لم يكن عليه تفادي فتات كلامٍ لا يريد أن يحكى. يضيق المكان لحظة إغلاقه للباب. لربّما لأنها المرّة الأولى التي يدخل بها الباب دونها. أو دون أن تكون في مرسمها تُتمّ رسمةً لن تنهيها، لأنّ العقارب أسرع من الرّيشة. و السّاعة لا تملك حسّاً فنّياً يكفيها أن تنتظر رسّاماً ليتمّ لوحته، أو شاعراً لينهي قصيدته، أو عاشقاً ليحكي قلبه.
تُصبح الأماكن وجوه من رافقونا فيها، فلا يعود الشّارع أرضاً ولا الإشارةُ عاموداً بثلاثة ألوان. كلّ التفاصيل المكانيّة ستشبههم حتّى تصيرهم. و سيّارة الإسعاف الصارخة في الشارع الذي تحدّثنا فيه معهم عن العالم بكلّ تفاصيله التي تحمل ولا تحمل من معنى، ستصبح صوتهم. سيُبكينا المقهى ذاك. و تُضحكنا طويلاً زوايا المكتبة تلك.
تضغط جدران المكان على الساعة في معصمه الأيمن سابقاً، و الأيسر من بعدها، لتُوقف الزّمن في عينيها. إلا أنّه لا يتوقّف. يُمسك الشفرة بكفّه. مازال الخاتم هناك. ينظر إليه. يخلعه.
هل يعود الزّمن إلى ما قبل عهده بها؟ و لو عاد هو، هل يعود القلب هناك؟ ..
يمرّر شفرته على رؤوس الشًّعر. يجرح خدّه الأيسر. يرمي الشفرة، و يترك وجهه بنصف لحية و جرح. "لربّما أنا هناك. أنا حيث النصف. حيث اللا مكان. حيث اللا زمان.". ينظر إلى السّاعة. مازالت متوقّفة حيث أوقفها. يعود إلى طرف السرير. يمرّر كفّه على نصف اللحية القابعة هناك. يمسح على جرحه. يخلع الساعة من معصمه الأيسر. يعيد البطّاريّة حيث كانت. ينظر إلى الساعة في معصمه الأيمن وهي تُغنّي للعقارب الراقصةِ نحو فنائها. ويبكي.
أعطني بعض وقت، كلّ الوقت لأحكي. سأحكي كأنّه النطق الأوّل، والحرف الأخير. سأحكي كأنّما لم أحك قبلاً. كأنّما لن أحكي بعد ذلك. أعطِني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأرمي بين يديك كلّ ما قيل لي يوماً أنّ عليّ إخفاءه. فقضيت عمري بين بينين. لا البوح يليق بما علّموني. و لا الصّمت يليق بشغف الإحساس الذي يسكنني. أعطني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأصمت طويلاً. و أرقب الساعات تكتب قصتي التي أصبحت في فصلها الأخير، قبل أن أُتِمّ قراءة أولى فُصولِها. أعطِني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأعيد ساعتك إلى معصمك الأيسر. و أجمّد الوجع حيث اللّا وعي به. حيث اللّا اعتراف بوجوده. حيث تُدير ظهرك له و تمضي، نحو نكران الواقع الأقسى من أن يُعترف به. أعطني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأعود و لو قليلاً. أُعطيك ماكينة حلاقتك التي خبّأت تحت السرير. و أمضي. يستيقظ. على طرف السرير ذاته يُسنِد ما تبقّى من قوّته. يتناول علبة سجائر. يدسّ إحداها في فمه. لا يملك أعواد ثقاب، فهو لم يكن يوماً مدخّناً. أو على الأقل، ترك التدخين مُذ وجد مؤنِساً سواه. و الآن و قد غادره أُنسُه كان عليه أن يبحث عن أعواد ثقاب. يدور حول نفسه. يفتح دولاباُ هنا. يُغلق باب خزانة هناك. يتوقّف قليلاً. كثيراً. ينظر في عينيه ذلك الكتاب داعياً إيّاه أن يفتحه. يرمي السيجارة بعيداً. و يرتمي على الأريكة حاملاً الكتاب. مضى على ذلك الكتاب عشر سنين. قرأه للمرّة الأولى و هو في آخر سنةٍ في المدرسة. رائحة الورق وشت بذكرى قديمة. و الأوراق الموجودةُ في قلب الكتاب كأنّها نبضه حكت شيئاً من ماضيه.
نعود إلى الكلمات لنجدها كما كانت. و تجدنا كما لم نكن. كما الأماكن و الروائح و الذكريات. ثابتةٌ في مكانها. تنتظر عودتنا كلّ مرّة بعينين جديدتين. لنراها فنرانا بشكلٍ آخر. نعود لها لنقيّم أنفسنا. لنعيد تقييم علاقتنا بنا و بها. و لننظر في عين ذاك الذي كنّاه في الأمس عبرها. فنسأله و يسألنا. و تبقى هي، هي. بهيبة المكان. و وجع الحرف. و عاصفة المشاعر الذي تبعثه الرائحة.
يفتح الكتاب. يقرأ في إحدى زاواياه ملحوظةً كتبتها. بقلمٍ أحمر كما اعتادت. كانت تقول أنها حين تكتب إلى جانب كلمات الكاتب و بقلمٍ أحمر، تشعر أنّها تملك سلطةً على الورق و أحداث الكتاب. يقلب الصفحات. يجد إحداها ممزّقةً. 25. 26. 28. لماذا مزّقت الصفحة السابعة و العشرين؟. يُغلِق الكتاب. تسقط ورقةٌ كانت عالقةً بين الصفحات. يرفعها. يفتحها. الصفحة 27.
لربّما علينا أن نواجه القصّة كاملةً. سنحاول تمزيق صفحةٍ هنا. و إلغاء شخصيّةٍ هناك. إلّا أنّ الكتاب بأحداثه كاملاً. بشخصيّاته جميعها. بخيباته و أمله. سيختبئ بين الصفحات و يبقى عالِقاً ليسقط على ذاكرتك يوماً ما دون سابق إنذار.
ينظر إلى الساعة في معصمه الأيمن. عليه أن يذهب. يضع الصفحة جانباً. يبدّل ملابسه. يلبس معطفه الكحليّ. يضع يده في جيبه سريعاً. مفتاح البيت من الجيب إلى يده إلى الباب. يديره مرة. مرتين. يمضي.
--- يجلس على أبعد طاولةٍ عن الباب. أقرب طاولةٍ للنافذة. إنها المرّة الأولى التي يدخل فيها مطعماً وحده. لا يتلفّظ بأيّ حرف. يُشير للنادل. يُشير إلى الطّلب. يرفع معصمه الأيمن ليقرأ الوقت. لا ساعةَ هناك. مُذ غابت صار ينقل الساعة بين معصمه الأيمن و الأيسر وِفقاّ لحالة قلبه المتنقّل بين حنينٍ شديدٍ ليعيش تماماً كما لو كانت هنا. و رغبةٍ شديدةٍ أن يعيش تماماً كما لو كانت دائماً هناك. يرفع معصمه الأيسر. لا ساعة هناك. لقد نسِيَتهُ بين الحالتَين. قلبٌ بلا وطن. يتجاهل الزّمن علّه يهزمُ بغيابه وجعه. ينظر حوله. لم يعتد الأكل وحيداً. و بإمكانه أن يخابر صديقاً ليشاركه وجبته هذه. إلا أنه يرغب بالوحدة. يرغب بالجلوس مع وجعه. بالفِرار من الوجوه جميعها نحو وجهه. يضع النّادل الصحن أمامه. يهزّ الآخر رأسه شاكراً. يبدو الطعام حزيناً اليوم. يبحث عن أيّ شيءٍ يعكسه. يحاكيه. يُطالعه. حبّات الأرزّ. كأس الماء. ذلك الطّفل الذي تركته أمّه يبكي و انشغلت بالأكل. لم يعتد أن يجلس وحيداً دون وجهٍ يعكسه. دون وجهِها. ينظر حوله بحثاً عنها. يترك الطّعام و المكان و يمضي.
يقول نزار قبّاني. "الحبّ في الأرض بعضٌ من تخيّلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه." و لاخترعنا وجوهاً. و مرايا لتُحاكي صورنا، أحزاننا، أحلامنا و تعكِسنا. أيّ شيء. نظرة. كلمة. تنهيدة. عَبره نعكس ذلك الساكن فينا فلا نقابله إلّا من خلال وجهٍ ما. وجهٌ يذكّرنا أننا هنا. لأننا وحدنا لا نكفي. لن نكفي. لو لم نجد ذلك الآخر الذي سيُرينا إيّانا واضحين. معضلةُ الفقد تكمن لا في المفقود و غيابه، بل بفُقداننا و غيابنا فيه. لا أنانيّة هنا. بل نقصٌ في النّفس ربّما لا يكتمل إلا بوجودهم. و سيبقى ذلك النقص مادامت مرآة النّفس غير صالحةٍ إلّا للعتب. كيف تعكسنا؟ لا أدري. لربّما تكون الحياة بكلّ ما فيها رحلةً نحو تلك المرآة. و لربّما لن نصل لها أبداً. لربّما سنبقى نبحث في صوتٍ ما غير صوتنا عنّا. و سنبقى بذلك بلا ساعة إن غابوا.
يكره القهوة. يكرهها ولا يفهم لماذا يحبّها الناس كلّ ذلك الحبّ. يمشي في الطريق بلا هدف. يمشي وحسب نحو لا شيء. يوجد الكثير من النّاس في الشّوارع. كم منهم خرج هارِباً من وجهٍ فقده. فوجده كما يحدث معه هو، في كلّ الوجوه. يتفادى الشوارع التي تشبهها. يتفادى الأغاني التي كانت تحبّها. يتفادى ذكراها. وهو بتفاديه ذاك، موغِلٌ في الذّكرى. غارقٌ بها.
مقهى. يدفع الباب. تندفع رائحة القهوة المخلوطةِ بأغنيةٍ لا يعرفها. يرمي كتابه على الطاولة. يطلب القهوة. سوداء. تماماً. دون سكّر. دون حليب. كما يكره. يرتشف بعضها. لا يفهم كيف يحبّ النّاس مشروباً مُرّاً إلى هذا الحدّ. لماذا يشرب القهوة؟ هل يبحث عن سِواه اليوم؟ يمارس كلّ العادات التي يكرهها علّه يحبّ تلك الحياة. فيكتشف عالماً آخر يستحقّ أن يُعاش دونها. يفتح الكتاب. أدونيس. يكره الشّعر. يكره الكلمات المزيّنة. كلّما ازدادت الحروف تعقيداً ازدادت كذِباً. و هو يكره الكذب. يرتشف القهوة. يكره القهوة. تترك في اللّسان مذاقاً لا بأس به. إلّا أنّها في لحظة اللّقاء الأوّل تؤلم لسانه. تتسارع نبضات قلبه الغير معتادٍ على القهوة. لا بأس، "الحبّ في أوّله صعب"، يحدّث نفسه مُرتشفاً المزيد. يُضيف الحليب، والكثير من السّكّر. الآن ربّما. يشرب القهوة. يكره القهوة.
لأنّ الحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون. لا لأنّه يسقط على القلوب دفعةً واحدة. ولكنّه يُقابل القلب بابتسامةِ مرحّب. برغبةٍ ملحّة للألم. أن تصل للمرارة. و تتجرّعها. مرة. مرتين. عشرة. حتى تألفها وتألفك. فلا تعود ترغب بترك السرير صباحاً إن لم تنتظرك بعده. لأن الحبّ إما أن يكون أو لا يكون. فإنّ ذاك الذي يزور قلبك بخطّةِ تحويلك لشخصٍ آخر، مضيفاً الحليب تارةً و السّكّر تارةً أخرى، هو شخص لا يستحقّ قلبك. فالحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون. إمّا أن يزورك كلّك. راغِباً بنقصك قبل اكتمالك. ضعفك قبل قوّتك. قبحك قبل جمالك. أو يمضي. لأنّ الحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون.
يفتح كتاب أدونيس –ورّاق يبيع كتب النجوم-. اشترى ذلك الكتاب من سنةٍ أو زيادة. كان قد قرأ في مكانٍ ما أنّ الأدب يزيد القلب اتّساعاً. أنّ هناك شيئاً ما في الكلمةِ ليس في سواها. "بس ما في وقت". هكذا كان يقول دائماً. بين ساعات العمل. و اللا عمل. لا وقت للأدب و الكلمة. يوماً ما سنقرأ نزار قبّاني وأدونيس. و نسمع أغنية كاملة لأم كلثوم، هكذا كانت تقول، بس ما في وقت. ينظر إلى معصمه الأيمن. يتذكّر أن لا ساعةَ هناك. لا وقت. يقرأ. "ماضياً، كنت أقذف بوقتي في سلّة تظلّ فارغة. حاضراً أرميه في سلّة تظلّ طافحة. و لا شيء ممّا مضى يتآخى مع أشيائي. و كنت قد حلمت، عبثاً، بفجر يتّسع حقّاً لشمسي. لكن، لا تزال الدقائق تلتفّ على جسدي، باردة كمثل عباءة مليئة بالثّقوب. وليس في سريري إلا لحاف اللّغة." (ص 10)
لا يفهم. هل يتّسع الزّمن بالكلمة. فيتّسع القلب بالزّمن. لماذا اليوم عدا عن كلّ الأيّام يشعر أنّه يملك الوقت كلّه. غياب السّاعة؟ أم حضور الكلمة؟
كلّ شيءٍ مؤجّل. كلّ الكتب. والأسئلة. والمشاعر. والحزن. الأغاني. والقصائد. كلّ شيء. بس ما في وقت. ولكن ما الوقت؟ نلاحقه نحن أم هو من يلاحقنا. يمتلكنا أم نمتلكه. نخلع الساعات تحرّراً منه. أم نهرب إلى الكلمة لتُنسينا إيّاه؟.. لن نعي كم كانت واسعةً مساحات الوقت حتّى تغيب وجوههم. و أحلامهم المؤجّلة بِـ بس ما في وقت! .. لأنّ الوقت ليس هو ما نحتاجه. نحتاج للمرآة تلك التي ستعكسنا. للقهوة التي سنحبّها دون إضافة حليب. لخلع الساعة بعض الوقت. الكثير من الوقت. والنظر في قلب اللّغة الساكنة قلوبنا المكبّلةِ حروفُها بِـ بس ما في وقت.
"عم تقرأ لأدونيس؟" سأله صديقه مُستنكِراً اختياره. لا يعرف من هو أدونيس. يُعجبه الاسم، ربّما. ولمّا وقع اختياره على هذا الكتاب عدا عن غيره مذ عام أو أكثر، كان ذلك في سعي منه أن يصِل لصورة المثقّف. كان ذلك ضمن مرحلةٍ من حياته شملت لبسه لنظّارة مدوّرة. إطالته لشعره. وأوّل محاولةٍ له لشرب القهوةِ التي يكره. لأنّ أسماء معيّنة، و شكلٌ معيّن يرتبط لسبب لا يعرفه بما يعنيه أن تكون مثقّفاً.
لأنّ تعاريف الأشياء تصلنا جاهزة. مُعلّبة. و حين نقول "مثقّف" هناك صورةٌ ذهنيّةٌ ستصاحب الكلمة، إن لم نرجِع إلى الخلفِ قليلاً، كثيراً. وننظر لها من بعيد بحثاً عن معرِّفِها الأوّل وسبب تعريفه لها، سنغرق في معانٍ صُوّرت وكأنّها حقائق، بالرّغم من أنّها قد لا تكون بالضّرورةِ أكثر من وجهات نظر.
لا يعرف من رسم الثّقافة بالشّكل ذلك. إلّا أنّه وجد في اسم أدونيس طريقاً سريعاً نحو صورة المثقّف التي يطمح لها. لا يعرف من رسم صورة المثقّف تلك. ولا يعرف ما سبب استنكار صديقه. بحث سريع. يبدو أنّ أدونيس ذاك مثير للجدل أكثر من الطبيعيّ في آرائه السّياسيّة، واللّا سياسيّة. لم يعتد أن يمشي في طرقٍ وعرة. يكره اختلاف الآراء. يكره النّقد. يحبّ تفادي كلّ المواضيع و الأشخاص المثيرين للجدل. يُغلِق الكتاب وأدونيس. لا وقت لِلبحث في نفسه عن رأيه في شخصٍ متورّطٍ سياسيّاً. يكره السياسة.
هل نقرأ عن الحبّ والزمن والإنسان لشاعرٍ أو أديبٍ لا نتّفق معه سياسيّاً، أو حتّى أخلاقِيّاً؟ إلى أيّ حدٍّ يتأثّر الحرفُ بقائلِه؟ وهل تصير القصائدُ شاعرها حين تُحكى؟ وإن خولِف الثاني، هل لا بدّ من رفض الأولى؟ وكم نفقِدُ من الكلماتِ حين نتفاداها و نتفادى قائليها؟ طيّب. لأنّ القصيدةَ تحمِل على ظهرها أكثر من الكلمة. تحمل الشّاعر بكلّ ما فيه؛ بمشاعره، وآرائه السياسيّة واللا سياسيّة. مُثقلةٌ بشخصهِ الذي لا بدّ تُشبهه جدّاً. وجه إنسانٍ هي القصيدة، مشوّهةٌ بنقصٍ مفضوح. وربّما يتحمل إحدى تفاصيلها بعض جمالٍ يستحِقّ أن يُكتَشَف. لا بأس أن نقرأ. ما دام النّصّ الذي نقرأ شفّافاً. كاشفاً حِملَهُ كاملاً. فإذا استطعنا كشف حُجُبِ النّصّ، عندها لا يُهمّ لمن نقرأ وماذا نقرأ. لأنّ الوعيَ بالكلمة ومصدرها، سيخلقُ مساحةً لا نهائيّةً للتّفكير، لا التبرير. والغوص في أسبار نفسٍ بشريّةٍ عبر حرفها.
--- يمشي. الشارع أطول ممّا اعتاد. كلّ الطّرق تغدو أطول حين الوِحدة. طرق الشوارع. طرق القلوب. طرق الأحلام. كلّ شيءٍ يغدو أبعد ببُعد الأحبّةِ عنّا. الجوّ غائم. لا يحمل مظلّةً اليوم. لم يعتد حمل مظلّةٍ أبداً. إلّا أنّه لا يتمنّى المطر اليوم. ضحكةُ صِبيةٍ عن يمينه. ينظر في وجوهِهِم فيشعر بكمّ البؤسِ فيه أكثر. يمشي. الجوّ يدعو للبكاء. كلّ ما في السّماء يطالبه بمشاركة دمعه. يمشي. مُواءُ قطّةٍ عرجاء. ينظر في عينيها. تموء. يمشي. قطرةُ ماء على كفّه الأيمن. تذكّره تلك دون أن تعي بخلوّ الكفّ من كفّ. يمشي. قطرةٌ أخرى. تلك التي كانت على حافّة جفنه، وهوت ملامسة خده بعد تدافع الدموع الأخرى في عينه. انفجرت شاهقةَ في وجه الأرض. "السما عم تبكي" هكذا كانت تقول له حين المطر. بكاؤها يُذكّرنا بالحزن السّاكِنِ أطراف هذه الأرض، والذي تشهده السّماء كلّ يوم. أيّام الصحوِ ما هي إلا محاولةٌ يائسةٌ منها أن تفرح، أن تنسى، أن تتجاهل الوجع. حتّى ترى على قارعةِ الطريق عجوزاً يمدّ يده. أو في إحدى زوايا العالم لاجئاً حُرم الوطن. أو قلباً حُرم الرحمة. تشهقُ السّماء، مبتلعةً وجع الأرض وأهلها. وتبكي.
"نحن نعيش في أكثر من عالم". لا منطِق يفسّر كلّ هذا الجنون الذي يحدث. لا منطِق يُفسّر الجوع. لا منطق يفسّر الفقر. لا منطق يفسّر الفقد، والوجع. لا منطق. يضحك نصف العالم ضحكةً عالية جداً، يُغطّي صداها صوت نحيبِ النّصفِ الآخر. ويعتلي النّصفُ الأوّل مِنبَراً ليُحلّلَ طويلاً صوت النحيب ونغمه، مصدرَ علوّهِ وعتبه. وينسى أنّه سببه.
شعره يبتلّ. ومازال. هل يوجد للبَلَلِ حدّ؟ يمشي مُسرِعاً. يقف تحت واجهةِ محلٍّ لبيع الفلافل. رائحة القليِ تحتلّ أجزاء الهواء من حوله. يجلس على الأرض. عن يمينه رجلٌ تجاوز الستين. يرتجف. "فِدوة بردان" يقول العجوزُ متّكئاً على أواخر الحروف. يخلع مِعطفهُ و يمدّ به إلى العجوز. يدسّ سيجارة في فمه. ويدخّن. يبرد. لربّما لم يكن عليه أن يعطي العجوز معطفه. يغنّي العجوز موّالاً بلهجة عراقيّة واضحة. "ذكرتك والسّما مغيمة وعليك الروح محتارة .. مادري الدمع من العين، مدري السّما المطّارة .. وينك ما إلك عنوان واسمك ضاعت أخباره.. البحر لو يبعدك عنّي أسوّي القلب عبّارة." يبكي. يبرد. لربّما لم يكن عليه أن يعطي العجوز معطفه.
ستتمنّى للحظاتٍ أن تمدّ يديك وتحضن الكرة الأرضيّة البائسة بأهلها. إلّا أنّك ستعي أن يديك أقصر من أن تتّسع لحدود العالم. وأنّ حضنك أضيق من سعةِ الوجع في هذا العالم. وأنّ بك من الوجع ما يحتاج حضناَ أنت أيضاً. ستعي في لحظات العطاء متعةً لن تشعرها في أيّ ظرفٍ آخر. وستتلمّس في الوقت ذاته نفسك البشريّة الأنانيّة جداً. نفسك التي ترى نفسها مركزاً للعالم. لو لم يكن المركز ضاحكاً، لن يستطيع بعث الضحكِ في وجوه من حوله. ستعي أنّك إنسان. أنّك أحياناً ستضيق ذرعاً بطلباتهم. بأوجاعهم. بحزنهم. والضحيّة الساكنة فيهم. ستتفهّم جداً. لكنّك ستجاهد نفسك الأنانيّة كلّ لحظةٍ أن ترى في كلٍّ منهم قصّةَ تستحقّ أن تُحكى وتُسمع. وستجاهدها طويلاً لتُذكّرها أنّك لست أكثر منهم، ولن تكون أبداً. وأنّهم مثلك تماماً. ستجاهد صوتك، كلماتك، نظراتك. ستجاهد إحساسك أنّك "تُساعدهم". فأنت لا تُساعد أحداً. وبمجرّد أن تُنصّب نفسك مساعداً، فأنت تدّعي أنّك في موقعِ أعلى. ثمّ بعد كلّ ذاك الجهاد، أو قبله، ستعي، يمكن متأخّراً، يمكن بعد أن تجرح أحدهم، أنّك لا تقوى على سماع القصص جميعها. وأنّ حضنك يتّسع لزاويةٍ واحدةٍ فقط، أو يمكن أقل، من زوايا هذا العالم الرّحب ببؤسه. ستبكي طويلاً، وسيكون بكاؤك عليك بحدّ ذاته أنانيّة. ولن تعي كلّ ذلك حتّى تقابل عجوزاً به من ريح دجلة. ونحيب الفرات. يغنّي في شارعٍ لا يفهم شجن صوته. ولا يبكيه. ينظر في عينيك و يقول، "فِدوة، بردان".
------------ يستيقظ الصبح في كلّ زاويةٍ من زوايا المكان إلّا فيه. يُمسك كفّ النّوم راجياً الأمس أن لا يتركه لليوم. يفرك عينيه. يُغلق عينيه. يحاول النّوم. وجهها يُوقظه. يُسلّم قلبه للذكرى. مذ غابت كان يحاول أن يُقاوم صوتها فيه. تفاصيل ضحكة عينيها. انكماشةُ أنفها حين تبكي. حاجتُها اللّا مُفسّرة أن تبلّ شعرها في كلّ مرّة ترسم فيها. صمتُها المقدّس في كلّ مرّةٍ يخذلها الرّسم. ينظر إلى السّاعة في معصمه الأيمن. السّاعة متوقّفة. عليه أن يبتاع بطّاريّةً. أو ربّما لا.
يتوقّف الزّمن لحظة الذّكرى. في اللّحظة الفاصلةِ بين رحيلهم عنّا ورحيلهم فينا، سنقضي الكثير من الزّمن المتوقّفِ في بقاياهم. وستجيء بهم الذّكرى، أحلى ممّا كانوا. أقرب ممّا كانوا. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً، كاذبةٌ جداً، ستصوّر لك الغائب على أنّه كان كلّ قلبك. والأمس على أنّه حلم غاب. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. ستعجز عن إعادةِ الصورة كاملة. وستتركك مع بعضها. لأنّ الذاكرة انتقائيّة والمشاعر لحظيّةٌ، يتواطؤ كليهما على قلبك لحظة الفقد لتتصوّر أنّك صرت في قاعِ الوجع. ستشعر أنّ الفراق الذي يعصرك هو كلّ ما شعرت وما ستشعر به يوماً. في لحظةٍ واحدةٍ أو أكثر يقرُب كلّ شيء، ولن تستطيع أن تتخيّل كيف كان القلب دون فراق. ستتوقّف ذاكرة القلب عند اللّحظة. وستنتقي الذاكرة أحلى ما في الماضي لِتوجعك على شيءٍ لن يعود. و تعميك عمّا قد يحدث. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. سيتوقّف العالم هناك. في لحظةٍ واحدةٍ هي لحظةُ غياب وجهها. و قدوم تفاصيل ذكراها. و بالرّغم من أنّنا سنختار طائعين الفراق أحياناً، إلّا أنّ ازدواجيّةً الحرّية والقيد التي تسكن طبيعة الفراق لن تفارقنا. وبين تلك وتلك تكمن علاقاتنا الإنسانيّة المضطربة بالحدّ بين "أنا" و"نحن". بين التّعلّق الذي تسعى له قلوبنا جداً. والتعلّق الذي ترتعب منه قلوبنا جدّاً. نُطلق القلب نحو النبض ونحبسه عن التّحرّر. لأنّنا نخاف من غدٍ سيحمل الفراق والذكرى. الذكرى الانتقائيّة جداً. وفي سبيل خوفنا من لحظةٍ كتلك، سنرفض تسليم القلب لأحد. سنخاف. سنرتعب من غيابهم قبل أن يأتوا أصلاً. وسنبكي ذكرى ضحكتهم التي لم نرى بعد. وسنخاف. لأن قلوبنا أضعف. ولأن الذكرى أقوى. سيمرّون بنا وسيسكنوننا. سيأخذون بعضنا. وسنعطيهم إيّانا بكلّ سعادة. حتّى يغيبوا. فتغنّي جوليا بطرس "يارَيتو ما مرق". لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً لن يُخبرنا صوت جوليا عن الوجع الذي مرق بمرورهم. و لن يذكّرنا بِأنفسنا قبل مرورهم بنا. وسيتوقّف العالم عند وجوههم. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. سنختزل عوالمهم بعالمٍ واحد. وسنرى من وجوههم الشّتّى وجهاً واحد. وسنشتاق إلى حالٍ واحد. وكأنّ الإنسان لا يكون إلا على شاكلة واحدة مدى حياته. فالذاكرة تمحو كلّ التفاصيل في بضع صور. و ترميها أمامك. و تقول لك، ذاك هو. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً، جداً.
يتقلّب في السرير. ينظر فوق رأسه. إحدى لوحاتها التي رسمتها قبل أن تغيب. الرّيشة ملأت الزوايا بحرص باللّون الأبيض. لم يفهم لِماذا لوّنت المساحات البيضاء بالأبيض؟ كانت قد رسمت كوباً من الماء، نصف ممتلئ، أو نصف فارغ. كانت دائماً ما تقول له أنّ عليه أن ينظر لنصف الكوب الممتلئ. و لم يرَ النصف المتلئ. لم يرَ الكوب أصلاً. كانت تقول له أنّنا نخطئ الطريق أحياناً لنصل للمحطّة التي نريد. و كان يقول لها أن لا طريق هناك، وأنّه أجبن من أن يمشي دون خريطة. كان يرتعب إن تاه قليلاً. يحاول السيطرة بكلّ ما يملك من قوّة على تفاصيل حياته. يخاف أن يفقد بعضه في طريقٍ لم يختار. و كانت تُصرّ أنّنا نفقد لنجد. غيابها المفاجئ هذا هو أوّل مواجهةٍ له مع قلبه الذي اعتاد أن يكون كلّ شيءٍ من مكانه. كلّ وجهٍ في موقعه. يتقلّب في السرير. ماذا فعلت لأخسرها؟ يلوم الزّمن. والأوضاع. والنّاس. والاقتصاد العالميّ. وقطّة الجيران. مؤامرة كونيّة على قلبي. لا تفسير سوى ذاك.
ستختار أن تكون الضحيّة. ليس لأنّك كذلك بالضرورة. ولا لأنّك لا تملك تفسيراً كافٍ لكلّ ما يحدث. ولكن لأنّ قلبك أضعف من مواجهةِ نفسه. من مواجهة وجعه. ستهرب منك إليهم. لأنّ الضعف أسهل. ستنكمش في زاويةِ اللّوم و تبكيك. استمع لحروفك جيّداً. لانتقائك للكلمات التي تبرّئ و تبرّر كل ما يحدث لك بأيّ شيءٍ أو أحدٍ إلّاك. عندما تحكي مع نفسك المرّة القادمة. أقصد عندما تكثر الأصوات في رأسك سيعلو صوتُ ذلك الذي سيحاول الحفاظ على صورتك التي لا تشبهك. ويقوّي القوقعة حولك. ويحول بينك و بينك. ويحاول دائماً أن يحميك من نفسك بمنعك عن مواجهتها، ورميِ آلاف الأشخاص والكلمات والأحداث والتبريرات بينك و بينها. ستعمى عنك بها. وستسند اللّغة التي تحكي مع نفسك بها ذاك العمى. ستتمادى. وستنكمش في زاويةِ اللّوم وتبكيك.
لا بأس بالحزن. لا بأس أن تلوم. لا بأس أن تبكي وتتقوقع أحياناً، كثيراً. لكن بين كلّ ذلك لا بدّ أن تكون قادراً على النّظر في عيني نفسك أن تقول لها بكلّ ما تملك اللغة من وضوح و فصاحة، أنّك ناقصٌ هنا. مخطئٌ هنا. مُلامٌ هنا. بعدها، انكمش في زاوية نفسك وابكيك كل ما تشاء البكاء أن يكون.
يجلِس على طرف السرير، ممتلئاً بأيّ شيءٍ إلّاه. يخلع الساعة المتوقّفة عن معصمه الأيمن. يستسلم للذكرى. و يزيد في اللّوم. يُدَقّ الباب. يفتح. وجهها. تلمّ بعض لوحاتها. تنزع لوحة الكوب من فوق السرير.
لا كوب الآن.
لا كوب الآن.
ليتنا نستطيع إيقاف الزّمن بتلك السهولة.
مازالت الساعة التّاسعة من صباح الأمس تلاحقه، وستبقى تلاحقه. إلّا أنّ الساعة المتوقّفة الآن في معصمه الأيسر جعلت شيئاً ما في نفسه يشعر بالاطمئنان، وكأنّه تحكّم بالزّمن، حاصَرَهُ بدلاً من أن يُحاصَر به. و كأنّه عاد إلى ما قبل كلماتها "الساعة تُلبس في اليد اليُمنى". يقف، ثم يمشي نحو مرآة الحمّام، و يبحث طويلاً عن ماكينة الحلاقة. "أين وضعَتها؟" .. سأل نفسه. كان قد سلّمها نفسه. و حين نظرت بأكثر من عينين نحوه قائلةً "لا تحلق لحيتك"، كان على قلبه أن يتبع ذلك الطلب، و أكثر، حتّى و إن كان لا يعجبه وجهه ذاك. لم يجد الماكينة. يفتح باب المنزل مسرعاً. يقابله الجار بوجهِ مواسٍ، يحاول بدء حديثٍ ما، عن الجوّ، الأخبار، درج العمارة أيّ شيءٍ إلّاها. يركض ذلك الآخر كما الخيال.
لماذا يتكلّمون لو كانت حروفهم لن تهزّ سوى ذرّات الهواء من حولها؟ لماذا عليهم أن يملؤوا الصمت بأيّ شيء حتّى و إن كان أشدّ رتابةً وبلادةً من الصمتِ ذاته؟..
يتناول أقرب شفرة حلاقة، يضع بضع وريقات في يد البائع. ينظر فوق رأس البائع الأصلع، الساعة تدقّ. يغمض عينيه. "إذا لم أرى العقارب تتراقص، فالزمن لا يُغنّي. و حينها فقط سأتمكّن من تكبيله و الحديث معه." يمضي.
سيلاحق الساعات طويلاً، سيحاول حشر الزمن في زاويةِ الاعتراف. سيسائله طويلاً جداً قبل أن يعي أنّ الزّمن أبكم. أو أنّنا عنه صُمّ.
يعود إلى بيته، يغلق الباب. لم يقابل الجار هذه المرّة، و لم يكن عليه تفادي فتات كلامٍ لا يريد أن يحكى. يضيق المكان لحظة إغلاقه للباب. لربّما لأنها المرّة الأولى التي يدخل بها الباب دونها. أو دون أن تكون في مرسمها تُتمّ رسمةً لن تنهيها، لأنّ العقارب أسرع من الرّيشة. و السّاعة لا تملك حسّاً فنّياً يكفيها أن تنتظر رسّاماً ليتمّ لوحته، أو شاعراً لينهي قصيدته، أو عاشقاً ليحكي قلبه.
تُصبح الأماكن وجوه من رافقونا فيها، فلا يعود الشّارع أرضاً ولا الإشارةُ عاموداً بثلاثة ألوان. كلّ التفاصيل المكانيّة ستشبههم حتّى تصيرهم. و سيّارة الإسعاف الصارخة في الشارع الذي تحدّثنا فيه معهم عن العالم بكلّ تفاصيله التي تحمل ولا تحمل من معنى، ستصبح صوتهم. سيُبكينا المقهى ذاك. و تُضحكنا طويلاً زوايا المكتبة تلك.
تضغط جدران المكان على الساعة في معصمه الأيمن سابقاً، و الأيسر من بعدها، لتُوقف الزّمن في عينيها. إلا أنّه لا يتوقّف. يُمسك الشفرة بكفّه. مازال الخاتم هناك. ينظر إليه. يخلعه.
هل يعود الزّمن إلى ما قبل عهده بها؟ و لو عاد هو، هل يعود القلب هناك؟ ..
يمرّر شفرته على رؤوس الشًّعر. يجرح خدّه الأيسر. يرمي الشفرة، و يترك وجهه بنصف لحية و جرح. "لربّما أنا هناك. أنا حيث النصف. حيث اللا مكان. حيث اللا زمان.". ينظر إلى السّاعة. مازالت متوقّفة حيث أوقفها. يعود إلى طرف السرير. يمرّر كفّه على نصف اللحية القابعة هناك. يمسح على جرحه. يخلع الساعة من معصمه الأيسر. يعيد البطّاريّة حيث كانت. ينظر إلى الساعة في معصمه الأيمن وهي تُغنّي للعقارب الراقصةِ نحو فنائها. ويبكي.
أعطني بعض وقت، كلّ الوقت لأحكي. سأحكي كأنّه النطق الأوّل، والحرف الأخير. سأحكي كأنّما لم أحك قبلاً. كأنّما لن أحكي بعد ذلك. أعطِني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأرمي بين يديك كلّ ما قيل لي يوماً أنّ عليّ إخفاءه. فقضيت عمري بين بينين. لا البوح يليق بما علّموني. و لا الصّمت يليق بشغف الإحساس الذي يسكنني. أعطني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأصمت طويلاً. و أرقب الساعات تكتب قصتي التي أصبحت في فصلها الأخير، قبل أن أُتِمّ قراءة أولى فُصولِها. أعطِني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأعيد ساعتك إلى معصمك الأيسر. و أجمّد الوجع حيث اللّا وعي به. حيث اللّا اعتراف بوجوده. حيث تُدير ظهرك له و تمضي، نحو نكران الواقع الأقسى من أن يُعترف به. أعطني بعض الوقت. كلّ الوقت. لأعود و لو قليلاً. أُعطيك ماكينة حلاقتك التي خبّأت تحت السرير. و أمضي. يستيقظ. على طرف السرير ذاته يُسنِد ما تبقّى من قوّته. يتناول علبة سجائر. يدسّ إحداها في فمه. لا يملك أعواد ثقاب، فهو لم يكن يوماً مدخّناً. أو على الأقل، ترك التدخين مُذ وجد مؤنِساً سواه. و الآن و قد غادره أُنسُه كان عليه أن يبحث عن أعواد ثقاب. يدور حول نفسه. يفتح دولاباُ هنا. يُغلق باب خزانة هناك. يتوقّف قليلاً. كثيراً. ينظر في عينيه ذلك الكتاب داعياً إيّاه أن يفتحه. يرمي السيجارة بعيداً. و يرتمي على الأريكة حاملاً الكتاب. مضى على ذلك الكتاب عشر سنين. قرأه للمرّة الأولى و هو في آخر سنةٍ في المدرسة. رائحة الورق وشت بذكرى قديمة. و الأوراق الموجودةُ في قلب الكتاب كأنّها نبضه حكت شيئاً من ماضيه.
نعود إلى الكلمات لنجدها كما كانت. و تجدنا كما لم نكن. كما الأماكن و الروائح و الذكريات. ثابتةٌ في مكانها. تنتظر عودتنا كلّ مرّة بعينين جديدتين. لنراها فنرانا بشكلٍ آخر. نعود لها لنقيّم أنفسنا. لنعيد تقييم علاقتنا بنا و بها. و لننظر في عين ذاك الذي كنّاه في الأمس عبرها. فنسأله و يسألنا. و تبقى هي، هي. بهيبة المكان. و وجع الحرف. و عاصفة المشاعر الذي تبعثه الرائحة.
يفتح الكتاب. يقرأ في إحدى زاواياه ملحوظةً كتبتها. بقلمٍ أحمر كما اعتادت. كانت تقول أنها حين تكتب إلى جانب كلمات الكاتب و بقلمٍ أحمر، تشعر أنّها تملك سلطةً على الورق و أحداث الكتاب. يقلب الصفحات. يجد إحداها ممزّقةً. 25. 26. 28. لماذا مزّقت الصفحة السابعة و العشرين؟. يُغلِق الكتاب. تسقط ورقةٌ كانت عالقةً بين الصفحات. يرفعها. يفتحها. الصفحة 27.
لربّما علينا أن نواجه القصّة كاملةً. سنحاول تمزيق صفحةٍ هنا. و إلغاء شخصيّةٍ هناك. إلّا أنّ الكتاب بأحداثه كاملاً. بشخصيّاته جميعها. بخيباته و أمله. سيختبئ بين الصفحات و يبقى عالِقاً ليسقط على ذاكرتك يوماً ما دون سابق إنذار.
ينظر إلى الساعة في معصمه الأيمن. عليه أن يذهب. يضع الصفحة جانباً. يبدّل ملابسه. يلبس معطفه الكحليّ. يضع يده في جيبه سريعاً. مفتاح البيت من الجيب إلى يده إلى الباب. يديره مرة. مرتين. يمضي.
--- يجلس على أبعد طاولةٍ عن الباب. أقرب طاولةٍ للنافذة. إنها المرّة الأولى التي يدخل فيها مطعماً وحده. لا يتلفّظ بأيّ حرف. يُشير للنادل. يُشير إلى الطّلب. يرفع معصمه الأيمن ليقرأ الوقت. لا ساعةَ هناك. مُذ غابت صار ينقل الساعة بين معصمه الأيمن و الأيسر وِفقاّ لحالة قلبه المتنقّل بين حنينٍ شديدٍ ليعيش تماماً كما لو كانت هنا. و رغبةٍ شديدةٍ أن يعيش تماماً كما لو كانت دائماً هناك. يرفع معصمه الأيسر. لا ساعة هناك. لقد نسِيَتهُ بين الحالتَين. قلبٌ بلا وطن. يتجاهل الزّمن علّه يهزمُ بغيابه وجعه. ينظر حوله. لم يعتد الأكل وحيداً. و بإمكانه أن يخابر صديقاً ليشاركه وجبته هذه. إلا أنه يرغب بالوحدة. يرغب بالجلوس مع وجعه. بالفِرار من الوجوه جميعها نحو وجهه. يضع النّادل الصحن أمامه. يهزّ الآخر رأسه شاكراً. يبدو الطعام حزيناً اليوم. يبحث عن أيّ شيءٍ يعكسه. يحاكيه. يُطالعه. حبّات الأرزّ. كأس الماء. ذلك الطّفل الذي تركته أمّه يبكي و انشغلت بالأكل. لم يعتد أن يجلس وحيداً دون وجهٍ يعكسه. دون وجهِها. ينظر حوله بحثاً عنها. يترك الطّعام و المكان و يمضي.
يقول نزار قبّاني. "الحبّ في الأرض بعضٌ من تخيّلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه." و لاخترعنا وجوهاً. و مرايا لتُحاكي صورنا، أحزاننا، أحلامنا و تعكِسنا. أيّ شيء. نظرة. كلمة. تنهيدة. عَبره نعكس ذلك الساكن فينا فلا نقابله إلّا من خلال وجهٍ ما. وجهٌ يذكّرنا أننا هنا. لأننا وحدنا لا نكفي. لن نكفي. لو لم نجد ذلك الآخر الذي سيُرينا إيّانا واضحين. معضلةُ الفقد تكمن لا في المفقود و غيابه، بل بفُقداننا و غيابنا فيه. لا أنانيّة هنا. بل نقصٌ في النّفس ربّما لا يكتمل إلا بوجودهم. و سيبقى ذلك النقص مادامت مرآة النّفس غير صالحةٍ إلّا للعتب. كيف تعكسنا؟ لا أدري. لربّما تكون الحياة بكلّ ما فيها رحلةً نحو تلك المرآة. و لربّما لن نصل لها أبداً. لربّما سنبقى نبحث في صوتٍ ما غير صوتنا عنّا. و سنبقى بذلك بلا ساعة إن غابوا.
يكره القهوة. يكرهها ولا يفهم لماذا يحبّها الناس كلّ ذلك الحبّ. يمشي في الطريق بلا هدف. يمشي وحسب نحو لا شيء. يوجد الكثير من النّاس في الشّوارع. كم منهم خرج هارِباً من وجهٍ فقده. فوجده كما يحدث معه هو، في كلّ الوجوه. يتفادى الشوارع التي تشبهها. يتفادى الأغاني التي كانت تحبّها. يتفادى ذكراها. وهو بتفاديه ذاك، موغِلٌ في الذّكرى. غارقٌ بها.
مقهى. يدفع الباب. تندفع رائحة القهوة المخلوطةِ بأغنيةٍ لا يعرفها. يرمي كتابه على الطاولة. يطلب القهوة. سوداء. تماماً. دون سكّر. دون حليب. كما يكره. يرتشف بعضها. لا يفهم كيف يحبّ النّاس مشروباً مُرّاً إلى هذا الحدّ. لماذا يشرب القهوة؟ هل يبحث عن سِواه اليوم؟ يمارس كلّ العادات التي يكرهها علّه يحبّ تلك الحياة. فيكتشف عالماً آخر يستحقّ أن يُعاش دونها. يفتح الكتاب. أدونيس. يكره الشّعر. يكره الكلمات المزيّنة. كلّما ازدادت الحروف تعقيداً ازدادت كذِباً. و هو يكره الكذب. يرتشف القهوة. يكره القهوة. تترك في اللّسان مذاقاً لا بأس به. إلّا أنّها في لحظة اللّقاء الأوّل تؤلم لسانه. تتسارع نبضات قلبه الغير معتادٍ على القهوة. لا بأس، "الحبّ في أوّله صعب"، يحدّث نفسه مُرتشفاً المزيد. يُضيف الحليب، والكثير من السّكّر. الآن ربّما. يشرب القهوة. يكره القهوة.
لأنّ الحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون. لا لأنّه يسقط على القلوب دفعةً واحدة. ولكنّه يُقابل القلب بابتسامةِ مرحّب. برغبةٍ ملحّة للألم. أن تصل للمرارة. و تتجرّعها. مرة. مرتين. عشرة. حتى تألفها وتألفك. فلا تعود ترغب بترك السرير صباحاً إن لم تنتظرك بعده. لأن الحبّ إما أن يكون أو لا يكون. فإنّ ذاك الذي يزور قلبك بخطّةِ تحويلك لشخصٍ آخر، مضيفاً الحليب تارةً و السّكّر تارةً أخرى، هو شخص لا يستحقّ قلبك. فالحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون. إمّا أن يزورك كلّك. راغِباً بنقصك قبل اكتمالك. ضعفك قبل قوّتك. قبحك قبل جمالك. أو يمضي. لأنّ الحبّ إمّا أن يكون أو لا يكون.
يفتح كتاب أدونيس –ورّاق يبيع كتب النجوم-. اشترى ذلك الكتاب من سنةٍ أو زيادة. كان قد قرأ في مكانٍ ما أنّ الأدب يزيد القلب اتّساعاً. أنّ هناك شيئاً ما في الكلمةِ ليس في سواها. "بس ما في وقت". هكذا كان يقول دائماً. بين ساعات العمل. و اللا عمل. لا وقت للأدب و الكلمة. يوماً ما سنقرأ نزار قبّاني وأدونيس. و نسمع أغنية كاملة لأم كلثوم، هكذا كانت تقول، بس ما في وقت. ينظر إلى معصمه الأيمن. يتذكّر أن لا ساعةَ هناك. لا وقت. يقرأ. "ماضياً، كنت أقذف بوقتي في سلّة تظلّ فارغة. حاضراً أرميه في سلّة تظلّ طافحة. و لا شيء ممّا مضى يتآخى مع أشيائي. و كنت قد حلمت، عبثاً، بفجر يتّسع حقّاً لشمسي. لكن، لا تزال الدقائق تلتفّ على جسدي، باردة كمثل عباءة مليئة بالثّقوب. وليس في سريري إلا لحاف اللّغة." (ص 10)
لا يفهم. هل يتّسع الزّمن بالكلمة. فيتّسع القلب بالزّمن. لماذا اليوم عدا عن كلّ الأيّام يشعر أنّه يملك الوقت كلّه. غياب السّاعة؟ أم حضور الكلمة؟
كلّ شيءٍ مؤجّل. كلّ الكتب. والأسئلة. والمشاعر. والحزن. الأغاني. والقصائد. كلّ شيء. بس ما في وقت. ولكن ما الوقت؟ نلاحقه نحن أم هو من يلاحقنا. يمتلكنا أم نمتلكه. نخلع الساعات تحرّراً منه. أم نهرب إلى الكلمة لتُنسينا إيّاه؟.. لن نعي كم كانت واسعةً مساحات الوقت حتّى تغيب وجوههم. و أحلامهم المؤجّلة بِـ بس ما في وقت! .. لأنّ الوقت ليس هو ما نحتاجه. نحتاج للمرآة تلك التي ستعكسنا. للقهوة التي سنحبّها دون إضافة حليب. لخلع الساعة بعض الوقت. الكثير من الوقت. والنظر في قلب اللّغة الساكنة قلوبنا المكبّلةِ حروفُها بِـ بس ما في وقت.
"عم تقرأ لأدونيس؟" سأله صديقه مُستنكِراً اختياره. لا يعرف من هو أدونيس. يُعجبه الاسم، ربّما. ولمّا وقع اختياره على هذا الكتاب عدا عن غيره مذ عام أو أكثر، كان ذلك في سعي منه أن يصِل لصورة المثقّف. كان ذلك ضمن مرحلةٍ من حياته شملت لبسه لنظّارة مدوّرة. إطالته لشعره. وأوّل محاولةٍ له لشرب القهوةِ التي يكره. لأنّ أسماء معيّنة، و شكلٌ معيّن يرتبط لسبب لا يعرفه بما يعنيه أن تكون مثقّفاً.
لأنّ تعاريف الأشياء تصلنا جاهزة. مُعلّبة. و حين نقول "مثقّف" هناك صورةٌ ذهنيّةٌ ستصاحب الكلمة، إن لم نرجِع إلى الخلفِ قليلاً، كثيراً. وننظر لها من بعيد بحثاً عن معرِّفِها الأوّل وسبب تعريفه لها، سنغرق في معانٍ صُوّرت وكأنّها حقائق، بالرّغم من أنّها قد لا تكون بالضّرورةِ أكثر من وجهات نظر.
لا يعرف من رسم الثّقافة بالشّكل ذلك. إلّا أنّه وجد في اسم أدونيس طريقاً سريعاً نحو صورة المثقّف التي يطمح لها. لا يعرف من رسم صورة المثقّف تلك. ولا يعرف ما سبب استنكار صديقه. بحث سريع. يبدو أنّ أدونيس ذاك مثير للجدل أكثر من الطبيعيّ في آرائه السّياسيّة، واللّا سياسيّة. لم يعتد أن يمشي في طرقٍ وعرة. يكره اختلاف الآراء. يكره النّقد. يحبّ تفادي كلّ المواضيع و الأشخاص المثيرين للجدل. يُغلِق الكتاب وأدونيس. لا وقت لِلبحث في نفسه عن رأيه في شخصٍ متورّطٍ سياسيّاً. يكره السياسة.
هل نقرأ عن الحبّ والزمن والإنسان لشاعرٍ أو أديبٍ لا نتّفق معه سياسيّاً، أو حتّى أخلاقِيّاً؟ إلى أيّ حدٍّ يتأثّر الحرفُ بقائلِه؟ وهل تصير القصائدُ شاعرها حين تُحكى؟ وإن خولِف الثاني، هل لا بدّ من رفض الأولى؟ وكم نفقِدُ من الكلماتِ حين نتفاداها و نتفادى قائليها؟ طيّب. لأنّ القصيدةَ تحمِل على ظهرها أكثر من الكلمة. تحمل الشّاعر بكلّ ما فيه؛ بمشاعره، وآرائه السياسيّة واللا سياسيّة. مُثقلةٌ بشخصهِ الذي لا بدّ تُشبهه جدّاً. وجه إنسانٍ هي القصيدة، مشوّهةٌ بنقصٍ مفضوح. وربّما يتحمل إحدى تفاصيلها بعض جمالٍ يستحِقّ أن يُكتَشَف. لا بأس أن نقرأ. ما دام النّصّ الذي نقرأ شفّافاً. كاشفاً حِملَهُ كاملاً. فإذا استطعنا كشف حُجُبِ النّصّ، عندها لا يُهمّ لمن نقرأ وماذا نقرأ. لأنّ الوعيَ بالكلمة ومصدرها، سيخلقُ مساحةً لا نهائيّةً للتّفكير، لا التبرير. والغوص في أسبار نفسٍ بشريّةٍ عبر حرفها.
--- يمشي. الشارع أطول ممّا اعتاد. كلّ الطّرق تغدو أطول حين الوِحدة. طرق الشوارع. طرق القلوب. طرق الأحلام. كلّ شيءٍ يغدو أبعد ببُعد الأحبّةِ عنّا. الجوّ غائم. لا يحمل مظلّةً اليوم. لم يعتد حمل مظلّةٍ أبداً. إلّا أنّه لا يتمنّى المطر اليوم. ضحكةُ صِبيةٍ عن يمينه. ينظر في وجوهِهِم فيشعر بكمّ البؤسِ فيه أكثر. يمشي. الجوّ يدعو للبكاء. كلّ ما في السّماء يطالبه بمشاركة دمعه. يمشي. مُواءُ قطّةٍ عرجاء. ينظر في عينيها. تموء. يمشي. قطرةُ ماء على كفّه الأيمن. تذكّره تلك دون أن تعي بخلوّ الكفّ من كفّ. يمشي. قطرةٌ أخرى. تلك التي كانت على حافّة جفنه، وهوت ملامسة خده بعد تدافع الدموع الأخرى في عينه. انفجرت شاهقةَ في وجه الأرض. "السما عم تبكي" هكذا كانت تقول له حين المطر. بكاؤها يُذكّرنا بالحزن السّاكِنِ أطراف هذه الأرض، والذي تشهده السّماء كلّ يوم. أيّام الصحوِ ما هي إلا محاولةٌ يائسةٌ منها أن تفرح، أن تنسى، أن تتجاهل الوجع. حتّى ترى على قارعةِ الطريق عجوزاً يمدّ يده. أو في إحدى زوايا العالم لاجئاً حُرم الوطن. أو قلباً حُرم الرحمة. تشهقُ السّماء، مبتلعةً وجع الأرض وأهلها. وتبكي.
"نحن نعيش في أكثر من عالم". لا منطِق يفسّر كلّ هذا الجنون الذي يحدث. لا منطِق يُفسّر الجوع. لا منطق يفسّر الفقر. لا منطق يفسّر الفقد، والوجع. لا منطق. يضحك نصف العالم ضحكةً عالية جداً، يُغطّي صداها صوت نحيبِ النّصفِ الآخر. ويعتلي النّصفُ الأوّل مِنبَراً ليُحلّلَ طويلاً صوت النحيب ونغمه، مصدرَ علوّهِ وعتبه. وينسى أنّه سببه.
شعره يبتلّ. ومازال. هل يوجد للبَلَلِ حدّ؟ يمشي مُسرِعاً. يقف تحت واجهةِ محلٍّ لبيع الفلافل. رائحة القليِ تحتلّ أجزاء الهواء من حوله. يجلس على الأرض. عن يمينه رجلٌ تجاوز الستين. يرتجف. "فِدوة بردان" يقول العجوزُ متّكئاً على أواخر الحروف. يخلع مِعطفهُ و يمدّ به إلى العجوز. يدسّ سيجارة في فمه. ويدخّن. يبرد. لربّما لم يكن عليه أن يعطي العجوز معطفه. يغنّي العجوز موّالاً بلهجة عراقيّة واضحة. "ذكرتك والسّما مغيمة وعليك الروح محتارة .. مادري الدمع من العين، مدري السّما المطّارة .. وينك ما إلك عنوان واسمك ضاعت أخباره.. البحر لو يبعدك عنّي أسوّي القلب عبّارة." يبكي. يبرد. لربّما لم يكن عليه أن يعطي العجوز معطفه.
ستتمنّى للحظاتٍ أن تمدّ يديك وتحضن الكرة الأرضيّة البائسة بأهلها. إلّا أنّك ستعي أن يديك أقصر من أن تتّسع لحدود العالم. وأنّ حضنك أضيق من سعةِ الوجع في هذا العالم. وأنّ بك من الوجع ما يحتاج حضناَ أنت أيضاً. ستعي في لحظات العطاء متعةً لن تشعرها في أيّ ظرفٍ آخر. وستتلمّس في الوقت ذاته نفسك البشريّة الأنانيّة جداً. نفسك التي ترى نفسها مركزاً للعالم. لو لم يكن المركز ضاحكاً، لن يستطيع بعث الضحكِ في وجوه من حوله. ستعي أنّك إنسان. أنّك أحياناً ستضيق ذرعاً بطلباتهم. بأوجاعهم. بحزنهم. والضحيّة الساكنة فيهم. ستتفهّم جداً. لكنّك ستجاهد نفسك الأنانيّة كلّ لحظةٍ أن ترى في كلٍّ منهم قصّةَ تستحقّ أن تُحكى وتُسمع. وستجاهدها طويلاً لتُذكّرها أنّك لست أكثر منهم، ولن تكون أبداً. وأنّهم مثلك تماماً. ستجاهد صوتك، كلماتك، نظراتك. ستجاهد إحساسك أنّك "تُساعدهم". فأنت لا تُساعد أحداً. وبمجرّد أن تُنصّب نفسك مساعداً، فأنت تدّعي أنّك في موقعِ أعلى. ثمّ بعد كلّ ذاك الجهاد، أو قبله، ستعي، يمكن متأخّراً، يمكن بعد أن تجرح أحدهم، أنّك لا تقوى على سماع القصص جميعها. وأنّ حضنك يتّسع لزاويةٍ واحدةٍ فقط، أو يمكن أقل، من زوايا هذا العالم الرّحب ببؤسه. ستبكي طويلاً، وسيكون بكاؤك عليك بحدّ ذاته أنانيّة. ولن تعي كلّ ذلك حتّى تقابل عجوزاً به من ريح دجلة. ونحيب الفرات. يغنّي في شارعٍ لا يفهم شجن صوته. ولا يبكيه. ينظر في عينيك و يقول، "فِدوة، بردان".
------------ يستيقظ الصبح في كلّ زاويةٍ من زوايا المكان إلّا فيه. يُمسك كفّ النّوم راجياً الأمس أن لا يتركه لليوم. يفرك عينيه. يُغلق عينيه. يحاول النّوم. وجهها يُوقظه. يُسلّم قلبه للذكرى. مذ غابت كان يحاول أن يُقاوم صوتها فيه. تفاصيل ضحكة عينيها. انكماشةُ أنفها حين تبكي. حاجتُها اللّا مُفسّرة أن تبلّ شعرها في كلّ مرّة ترسم فيها. صمتُها المقدّس في كلّ مرّةٍ يخذلها الرّسم. ينظر إلى السّاعة في معصمه الأيمن. السّاعة متوقّفة. عليه أن يبتاع بطّاريّةً. أو ربّما لا.
يتوقّف الزّمن لحظة الذّكرى. في اللّحظة الفاصلةِ بين رحيلهم عنّا ورحيلهم فينا، سنقضي الكثير من الزّمن المتوقّفِ في بقاياهم. وستجيء بهم الذّكرى، أحلى ممّا كانوا. أقرب ممّا كانوا. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً، كاذبةٌ جداً، ستصوّر لك الغائب على أنّه كان كلّ قلبك. والأمس على أنّه حلم غاب. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. ستعجز عن إعادةِ الصورة كاملة. وستتركك مع بعضها. لأنّ الذاكرة انتقائيّة والمشاعر لحظيّةٌ، يتواطؤ كليهما على قلبك لحظة الفقد لتتصوّر أنّك صرت في قاعِ الوجع. ستشعر أنّ الفراق الذي يعصرك هو كلّ ما شعرت وما ستشعر به يوماً. في لحظةٍ واحدةٍ أو أكثر يقرُب كلّ شيء، ولن تستطيع أن تتخيّل كيف كان القلب دون فراق. ستتوقّف ذاكرة القلب عند اللّحظة. وستنتقي الذاكرة أحلى ما في الماضي لِتوجعك على شيءٍ لن يعود. و تعميك عمّا قد يحدث. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. سيتوقّف العالم هناك. في لحظةٍ واحدةٍ هي لحظةُ غياب وجهها. و قدوم تفاصيل ذكراها. و بالرّغم من أنّنا سنختار طائعين الفراق أحياناً، إلّا أنّ ازدواجيّةً الحرّية والقيد التي تسكن طبيعة الفراق لن تفارقنا. وبين تلك وتلك تكمن علاقاتنا الإنسانيّة المضطربة بالحدّ بين "أنا" و"نحن". بين التّعلّق الذي تسعى له قلوبنا جداً. والتعلّق الذي ترتعب منه قلوبنا جدّاً. نُطلق القلب نحو النبض ونحبسه عن التّحرّر. لأنّنا نخاف من غدٍ سيحمل الفراق والذكرى. الذكرى الانتقائيّة جداً. وفي سبيل خوفنا من لحظةٍ كتلك، سنرفض تسليم القلب لأحد. سنخاف. سنرتعب من غيابهم قبل أن يأتوا أصلاً. وسنبكي ذكرى ضحكتهم التي لم نرى بعد. وسنخاف. لأن قلوبنا أضعف. ولأن الذكرى أقوى. سيمرّون بنا وسيسكنوننا. سيأخذون بعضنا. وسنعطيهم إيّانا بكلّ سعادة. حتّى يغيبوا. فتغنّي جوليا بطرس "يارَيتو ما مرق". لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً لن يُخبرنا صوت جوليا عن الوجع الذي مرق بمرورهم. و لن يذكّرنا بِأنفسنا قبل مرورهم بنا. وسيتوقّف العالم عند وجوههم. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً. سنختزل عوالمهم بعالمٍ واحد. وسنرى من وجوههم الشّتّى وجهاً واحد. وسنشتاق إلى حالٍ واحد. وكأنّ الإنسان لا يكون إلا على شاكلة واحدة مدى حياته. فالذاكرة تمحو كلّ التفاصيل في بضع صور. و ترميها أمامك. و تقول لك، ذاك هو. لأنّ الذاكرة انتقائيّة جداً، جداً.
يتقلّب في السرير. ينظر فوق رأسه. إحدى لوحاتها التي رسمتها قبل أن تغيب. الرّيشة ملأت الزوايا بحرص باللّون الأبيض. لم يفهم لِماذا لوّنت المساحات البيضاء بالأبيض؟ كانت قد رسمت كوباً من الماء، نصف ممتلئ، أو نصف فارغ. كانت دائماً ما تقول له أنّ عليه أن ينظر لنصف الكوب الممتلئ. و لم يرَ النصف المتلئ. لم يرَ الكوب أصلاً. كانت تقول له أنّنا نخطئ الطريق أحياناً لنصل للمحطّة التي نريد. و كان يقول لها أن لا طريق هناك، وأنّه أجبن من أن يمشي دون خريطة. كان يرتعب إن تاه قليلاً. يحاول السيطرة بكلّ ما يملك من قوّة على تفاصيل حياته. يخاف أن يفقد بعضه في طريقٍ لم يختار. و كانت تُصرّ أنّنا نفقد لنجد. غيابها المفاجئ هذا هو أوّل مواجهةٍ له مع قلبه الذي اعتاد أن يكون كلّ شيءٍ من مكانه. كلّ وجهٍ في موقعه. يتقلّب في السرير. ماذا فعلت لأخسرها؟ يلوم الزّمن. والأوضاع. والنّاس. والاقتصاد العالميّ. وقطّة الجيران. مؤامرة كونيّة على قلبي. لا تفسير سوى ذاك.
ستختار أن تكون الضحيّة. ليس لأنّك كذلك بالضرورة. ولا لأنّك لا تملك تفسيراً كافٍ لكلّ ما يحدث. ولكن لأنّ قلبك أضعف من مواجهةِ نفسه. من مواجهة وجعه. ستهرب منك إليهم. لأنّ الضعف أسهل. ستنكمش في زاويةِ اللّوم و تبكيك. استمع لحروفك جيّداً. لانتقائك للكلمات التي تبرّئ و تبرّر كل ما يحدث لك بأيّ شيءٍ أو أحدٍ إلّاك. عندما تحكي مع نفسك المرّة القادمة. أقصد عندما تكثر الأصوات في رأسك سيعلو صوتُ ذلك الذي سيحاول الحفاظ على صورتك التي لا تشبهك. ويقوّي القوقعة حولك. ويحول بينك و بينك. ويحاول دائماً أن يحميك من نفسك بمنعك عن مواجهتها، ورميِ آلاف الأشخاص والكلمات والأحداث والتبريرات بينك و بينها. ستعمى عنك بها. وستسند اللّغة التي تحكي مع نفسك بها ذاك العمى. ستتمادى. وستنكمش في زاويةِ اللّوم وتبكيك.
لا بأس بالحزن. لا بأس أن تلوم. لا بأس أن تبكي وتتقوقع أحياناً، كثيراً. لكن بين كلّ ذلك لا بدّ أن تكون قادراً على النّظر في عيني نفسك أن تقول لها بكلّ ما تملك اللغة من وضوح و فصاحة، أنّك ناقصٌ هنا. مخطئٌ هنا. مُلامٌ هنا. بعدها، انكمش في زاوية نفسك وابكيك كل ما تشاء البكاء أن يكون.
يجلِس على طرف السرير، ممتلئاً بأيّ شيءٍ إلّاه. يخلع الساعة المتوقّفة عن معصمه الأيمن. يستسلم للذكرى. و يزيد في اللّوم. يُدَقّ الباب. يفتح. وجهها. تلمّ بعض لوحاتها. تنزع لوحة الكوب من فوق السرير.
لا كوب الآن.
لا كوب الآن.